فصل: تفسير الآيات (89- 91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (88):

{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}
{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} قال عبد الله بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه، والطيب ما غذى وأنمى، فأما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب أنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا أحمد بن إبراهيم الدورقي وسلمة بن شبيب ومحمود بن غيلان قالوا: أخبرنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل.

.تفسير الآيات (89- 91):

{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}
قوله عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}، قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه، فأنزل الله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر {عقدتم} بالتحفيف، وقرأ ابن عامر {عاقدتم} بالألف وقرأ الآخرون {عقدتم} بالتشديد، أي: وكدتم، والمراد من الآية قصدتم وتعمدتم، {فَكَفَّارَتُهُ} أي: كفارة ما عقدتم الأيمان إذا حنثتم، {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} واختلفوا في قدره: فذهب قوم إلى أنه يطعم كل مسكين مدا من الطعام بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رطل وثلث من غالب قوت البلد، وكذلك في جميع الكفارات، وهو قول زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن اليسار وعطاء والحسن.
وقال أهل العراق: عليه لكل مسكين مُدّان، وهو نصف صاع، يروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
وقال أبو حنيفة: إن أطعم من الحنطة فنصف صاع، وإن أطعم من غيرها فصاع، وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والحكم.
ولو غدّاهم وعشاهم لا يجوز، وجوّز أبو حنيفة، ويُروى ذلك عن علي رضي الله عنه.
ولا تجوز الدراهم والدنانير ولا الخبز ولا الدقيق، بل يجب إخراج الحب إليهم، وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه كل ذلك.
ولو صرف الكل إلى مسكين واحد لا يجوز وجوز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام، ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم حر محتاج، فإن صرف إلى ذمي أو عبد أو غني لا يجوز، وجوّز أبو حنيفة صرفها إلى أهل الذمة، واتفقوا على أن صرف الزكاة إلى أهل الذمة لا يجوز.
قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي: من خير قوت عيالكم، وقال عبيدة السلماني: الأوسط الخبز والخل، والأعلى الخبز واللحم، والأدنى الخبز البحت والكل يجزئ.
قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} كل من لزمته كفارة اليمين فهو فيها مخيّر إن شاء أطعم عشرة من المساكين، وإن شاء كساهم، وإن شاء أعتق رقبة، فإن اختار الكسوة، فاختلفوا في قدرها: فذهب قوم إلى أنه يكسو كل مسكين ثوبا واحدا مما يقع عليه اسم الكسوة، إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو كساء ونحوها، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء وطاووس، وإليه ذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
وقال مالك: يجب لكل إنسان ما تجوز فيه صلاته، فيكسو الرجال ثوبا واحدا والنساء ثوبين درعا وخمارا.
وقال سعيد بن المسيب لكل مسكين ثوبان.
قوله عز وجل: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وإذا اختار العتق يجب إعتاق رقبة مؤمنة، وكذلك جميع الكفارات مثل كفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان يجب فيها إعتاق رقبة مؤمنة، وأجاز أبو حنيفة رضي الله عنه والثوري رضي الله عنه إعتاق الرقبة الكافرة في جميعها إلا في كفارة القتل، لأن الله تعالى قيّد الرقبة فيها بالإيمان، قلنا: المطلق يُحمل على المقيد كما أن الله تعالى قيّد الشهادة بالعدالة في موضع فقال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق، 2]، وأطلق في موضع، فقال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة، 282]، ثم العدالة شرط في جميعها حملا للمطلق على المقيد كذلك هاهنا، ولا يجوز إعتاق المرتد بالاتفاق عن الكفارة.
ويشترط أن يكون سليم الرق حتى لو أعتق عن كفارته مكاتبا أو أم ولد أو عبدا اشتراه بشرط العتق أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة، يُعتق ولكن لا يجوز عن الكفارة، وجوّز أصحاب الرأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدى شيئا من النجوم، وعتق القريب عن الكفارة ويشترط أن تكون الرقبة سليمة من كل عيب يضر بالعمل ضررا بيّنا حتى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين، أو إحدى الرجلين، ولا الأعمى ولا الزَّمِن ولا المجنون المطبق، ويجوز الأعور والأصم ومقطوع الأذنين والأنف لأن هذه العيوب لا تضر بالعمل ضررا بينا.
وعند أبي حنيفة رضي الله عنه كل عيب يفوِّت جنسا من المنفعة على الكمال يمنع الجواز، حتى جوز مقطوع إحدى اليدين، ولم يجوز مقطوع الأذنين.
قوله عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} إذا عجز الذي لزمته كفارة اليمين عن الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة، يجب عليه صوم ثلاثة أيام، والعجز أن لا يفضل من ماله عن قوته وقوت عياله وحاجته ما يطعم أو يكسو أو يعتق فإنه يصوم ثلاثة أيام.
وقال بعضهم: إذا ملك ما يمكنه الإطعام وإن لم يفضل عن كفايته فليس له الصيام، وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.
واختلفوا في وجوب التتابع في هذا الصوم: فذهب جماعة إلى أنه لا يجب فيه التتابع بل إن شاء تابع وإن شاء فرّق، والتتابع أفضل وهو أحد قولي الشافعي، وذهب قوم إلى أنه يجب فيه التتابع قياسا على كفارة القتل والظهار، وهو قول الثوري وأبي حنيفة، ويدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه صيام ثلاثة أيام متتابعات. {ذَلِكَ} أي: ذلك الذي ذكرت، {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وحنثتم، فإن الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث.
واختلفوا في تقديم الكفارة على الحنث: فذهب قوم إلى جوازه، لما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير». وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال الحسن وابن سيرين، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والشافعي، إلا أن الشافعي يقول: إن كفّر بالصوم قبل الحنث لا يجوز لأنه بدني، إنما يجوز بالإطعام أو الكسوة أو العتق كما يجوز تقديم الزكاة على الحول، ولا يجوز تعجيل صوم رمضان قبل وقته، وذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه.
قوله عز وجل: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} قيل: أراد به ترك الحلف، أي: لا تحلفوا، وقيل: وهو الأصح، أراد به: إذا حلفتم فلا تحنثوا، فالمراد منه حفظ اليمين عن الحنث هذا إذا لم تكن يمينه على ترك مندوب أو فعل مكروه، فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مندوب، فالأفضل أن يحنث نفسه ويكفّر، لما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حجاج بن منهال أنا جرير بن حازم عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفّر عن يمينك وأتِ الذي هو خير».
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} أي: القمار {وَالأنْصَابُ} يعني: الأوثان، سُميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها، واحدها نصب بفتح النون وسكون الصاد، ونُصب بضم النون مخففا ومثقلا {وَالأزْلامُ} يعني: الأقداح التي كانوا يستقسمون بها واحدها زَلَم {رِجْسٌ} خبيث مستقذر، {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} من تزيينه، {فَاجْتَنِبُوهُ} رد الكناية إلى الرجس، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أما العدواة في الخمر فإن الشاربين إذا سكروا عربدوا وتشاجروا، كما فعل الأنصاري الذي شج سعد بن أبي وقاص بلحي الجمل أما العداوة في الميسر، قال قتادة: كان الرجل يقامر على الأهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظا على حرفائه. {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر أو القمار ألهاه ذلك عن ذكر الله، وشوش عليه صلاته كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف، تقدم رجل ليصلي بهم صلاة المغرب بعدما شربوا فقرأ {قل يا أيها الكافرون}: أعبد ما تعبدون، بحذف لا {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أي: انتهوا، استفهام ومعناه أمر، كقوله تعالى: {فهل أنتم شاكرون} [سورة الأنبياء، 80].

.تفسير الآيات (92- 93):

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} المحارم والمناهي، {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وفي وعيد شارب الخمر أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الفوراني أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ثنا أبو الحسن محمد بن محمود المحمودي أنا أبو العباس الماسرجسي بنيسابور أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا صالح بن قدامة حدثنا أخي عبد الملك بن قدامة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مسكر حرام، وإن ختما على الله أن لا يشربه عبد في الدنيا إلا سقاه الله تعالى يوم القيامة من طينة الخبال، هل تدرون ما طينة الخبال؟» قال: «عرق أهل النار».
وأخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة».
وأخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا أحمد بن أبي أخبرنا أبو العباس الأصم أنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من أهل مصر عن عبد الله بن عمر أنه قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها».
قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} سبب نزول هذه الآية أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا لما نزل تحريم الخمر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون من مال الميسر؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} وشربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر، {إِذَا مَا اتَّقَوْا} الشرك، {وَآمَنُوا} وصدّقوا، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا} الخمر والميسر بعد تحريمهما، {وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا} ما حرّم الله عليهم أكله وشربه، {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقيل: معنى الأول إذ ما اتقوا الشرك، وآمنوا وصدقوا ثم اتقوا، أي: داوموا على ذلك التقوى، {وَآمَنُوا} ازدادوا إيمانا، ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا، وقيل: أي: اتقوا بالإحسان، وكل محسن متق، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

.تفسير الآية رقم (94):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية، نزلت عام الحديبية وكانوا محرمين ابتلاهم الله بالصيد، وكانت الوحوش تغشى رحالهم من كثرتها فهمّوا بأخذها فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} ليختبركم الله، وفائدة البلوى إظهار المطيع من العاصي، وإلا فلا حاجة له إلى البلوى بشيء من الصيد، وإنما بَعَّض، فقال: {بِشَيْءٍ} لأنه ابتلاهم بصيد البر خاصة. {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني: الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر من صغار الصيد، {وَرِمَاحُكُمْ} يعني: الكبار من الصيد، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} ليرى الله، لأنه قد علمه، {مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أي: يخاف الله ولم يره، كقوله تعالى: {الذين يخشون ربهم بالغيب} [الأنبياء، 49] أي: يخافه فلا يصطاد في حال الإحرام {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي: صاد بعد تحريمه، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يوجع ظهره وبطنه جلدا، ويسلب ثيابه.

.تفسير الآية رقم (95):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي: محرمون بالحج والعمرة، وهو جمع حرام، يقال: رجل حرام وامرأة حرام، وقد يكون من دخول الحرم، يقال: أحرم الرجل إذا عقد الإحرام، وأحرم إذا دخل الحرم. نزلت في رجل يقال له أبو اليَسَر شدَّ على حمار وحش وهو محرم فقتله.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} اختلفوا في هذا العمد فقال قوم: هو العمد بقتل الصيد مع نسيان الإحرام، أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة، وهو قول مجاهد والحسن.
وقال آخرون: هو أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا لإحرامه فعليه الكفارة.
واختلفوا فيما لو قتله خطأ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة، قال الزهري: على المتعمد بالكتاب وعلى المخطئ بالسنة، وقال سعيد بن جبير لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ، بل يختص بالعمد.
قوله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} قرأ أهل الكوفة ويعقوب {فجزاءٌ} منون، {مِثْلُ} رفع على البدل من الجزاء، وقرأ الآخرون بالإضافة {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} {مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة.
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي: يحكم بالجزاء رجلان عدلان، وينبغي أن يكونا فقيهين ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر وابن عباس، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، حكموا في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم، يحكم حاكم في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة، وفي حمار الوحش ببقرة وهي لا تساوي بقرة وفي الضبع بكبش وهي لا تساوي كبشا، فدل على أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبها من حيث الخلقة لا من حيث القيمة وتجب في الحمام شاة، وهو كل ما عب وهدر من الطير، كالفاختة والقمري.
ورُوي عن عمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا في حمام مكة بشاة، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة.
قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي: يُهدي تلك الكفارة إلى الكعبة، فيذبحها بمكة ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم، {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} قال الفراء رحمه الله: العِدْل بالكسر: المثل من جنسه، والعَدْل بالفتح: المثل من غير جنسه، وأراد به: أنه في جزاء الصيد مخيّر بين أن يذبح المثل من النعم، فيتصدق بلحمه على المساكين الحرم، وبين أن يقوّم المثل دراهم، والدراهم طعاما، فيتصدق بالطعام على المساكين الحرم، أو يصوم عن كل مدٍّ من الطعام يوما وله أن يصوم حيث شاء لأنه لا نفع فيه للمساكين.
وقال مالك: إن لم يخرج المثل يقوّم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به، أو يصوم.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يجب المثل من النعم، بل يقوّم الصيد فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر أو صاع من غيره يوما.
وقال الشعبي والنخعي جزاء الصيد على الترتيب والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير.
قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: جزاء معصيته، {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} يعني: قبل التحريم، ونزول الآية، قال السدي: عفا الله عما سلف في الجاهلية، {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} في الآخرة. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأل هل قتلت قبله شيئا من الصيد؟ فإن قال نعم لم يحكم عليه، وقيل له: اذهب ينتقم الله منك، وإن قال لم أقتل قبله شيئا حكم عليه، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه، ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج وهو واد بالطائف.
واختلفوا في المحرم هل يجوز له أكل لحم الصيد أو لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال، ويروى ذلك عن ابن عباس، وهو قول طاووس وبه قال سفيان الثوري، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودّان، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي، قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم».
وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ولا اصطيد لأجله أو بإشارته، وهو قول عمر وعثمان وأبي هريرة، وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله.
والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي عن نافع مولى أبي قتادة عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة، تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم شدّ على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك، فقال: «إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى».
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لحم الصيد لكم في الإحرام حلال، ما لم تصيدوه أو يُصاد لكم» قال أبو عيسى: المطلب لا نعرف له سماعا من جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وإذا أتلف المحرم شيئا من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض أو طائر دون الحمام ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما، واختلفوا في الجراد فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا هو من صيد البحر، روي ذلك عن كعب الأحبار، والأكثرون على أنها لا تحل، فإن أصابها فعليه صدقة، قال عمر: في الجراد تمرة، ورُوي عنه وعن ابن عباس: قبضة من طعام.